سورة النساء - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)}
واعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهات اليهود تكلم بعد ذلك مع النصارى في هذه الآية، والتقدير يا أهل الكتاب من النصارىلا تغلوا في دينكم أي لا تفرطوا في تعظيم المسيح، وذلك لأنه تعالى حكى عن اليهود أنهم يبالغون في الطعن في المسيح، وهؤلاء النصارى يبالغون في تعظيمه وكلا طرفي قصدهم ذميم، فلهذا قال للنصارى {لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} وقوله: {وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق} يعني لا تصفوا الله بالحلول والاتحاد في بدن الإنسان أو روحه، ونزهوه عن هذه الأحوال. ولما منعهم عن طريق الغول أرشدهم إلى طريق الحق، وهو أن المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وعبده وأما قوله: {وَكَلِمَتُهُ ألقاها إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مّنْهُ}.
فاعلم أنا فسرنا (الكلمة) في قوله تعالى: {إِنَّ الله يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مّنْهُ اسمه المسيح} [آل عمران: 45] والمعنى أنه وجد بكلمة الله وأمره من غير واسطة ولا نطفة كما قال: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] أما قوله: {وَرُوحٌ مّنْهُ} ففيه وجوه:
الأول: أنه جرت عادة الناس أنهم إذا وصفوا شيئاً بغاية الطهارة والنظافة قالوا: إنه روح، فلما كان عيسى لم يتكون من نطفة الأب وإنما تكون من نفخة جبريل عليه السلام لا جرم وصف بأنه روح، والمراد من قوله: {مِنْه} التشريف والتفضيل كما يقال: هذه نعمة من الله، والمراد كون تلك النعمة كاملة شريفة.
الثاني: أنه كان سبباً لحياة الخلق في أديانهم، ومن كان كذلك وصف بأنه روح.
قال تعالى في صفة القرآن {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] الثالث: روح منه أي رحمة منه، قيل في تفسير قوله تعالى: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ} [المجادلة: 22] أي برحمة منه، وقال عليه الصلاة والسلام: «إنما أنا رحمة مهداة» فلما كان عيسى رحمة من الله على الخلق من حيث أنه كان يرشدهم إلى مصالحهم في دينهم ودنياهم لا جرم سمي روحاً منه.
الرابع: أن الروح هو النفخ في كلام العرب، فإن الروح والريح متقاربان، فالروح عبارة عن نفخة جبريل وقوله: {مِنْهُ} يعني أن ذلك النفخ من جبريل كان بأمر الله وإذنه فهو منه، وهذا كقوله: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} [الأنبياء: 91] الخامس: قوله: {رُوحُ} أدخل التنكير في لفظ {رُوحُ} وذلك يفيد التعظيم، فكان المعنى: وروح من الأرواح الشريفة القدسية العالية، وقوله: {مِنْهُ} إضافة لذلك الروح إلى نفسه لأجل التشريف والتعظيم.
ثم قال تعالى: {فآمنوا بالله ورسله} أي أن عيسى من رسل الله فآمنوا به كإيمانكم بسائر الرسل ولا تجعلوه إلهاً.
ثم قال: {وَلاَ تَقُولُواْ ثلاثة انتهوا خَيْراً لَّكُمْ} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: المعنى: ولا تقولوا إن الله سبحانه واحد بالجوهر ثلاثة بالأقانيم.
وأعلم أن مذهب النصارى مجهول جداً، والذي يتحصل منه أنهم أثبتوا ذاتاً موصوفة بصفات ثلاثة، إلا أنهم وإن سموها صفات فهي في الحقيقة ذوات، بدليل أنهم يجوزون عليها الحلول في عيسى وفي مريم بأنفسها، وإلا لما جوزوا عليها أن تحل في الغير وأن تفارق ذلك الغير مرة أخرى، فهم وإن كانوا يسمونها بالصفات إلا أنهم في الحقيقة يثبتون ذوات متعددة قائمة بأنفسها، وذلك محض الكفر، فلهذا المعنى قال تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ ثلاثة انتهوا} فأما إن حملنا الثلاثة على أنهم يثبتون صفات ثلاثة، فهذا لا يمكن إنكاره، وكيف لا نقول ذلك وإنا نقول: هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام العالم الحي القادر المريد، ونفهم من كل واحد من هذه الألفاظ غير ما نفهمه من اللفظ الآخر، ولا معنى لتعدد الصفات إلا ذلك، فلو كان القول بتعدد الصفات كفراً لزم رد جميع القرآن ولزم رد العقل من حيث إنا نعلم بالضرورة أن المفهوم من كونه تعالى عالماً غير المفهوم من كونه تعالى قادراً أو حياً.
المسألة الثانية: قوله: {ثلاثة} خبر مبتدأ محذوف، ثم اختلفوا في تعيين ذلك المبتدأ على وجوه:
الأول: ما ذكرناه، أي ولا تقولوا الأقانيم ثلاثة.
الثاني: قال الزجاج: ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة، وذلك لأن القرآن يدل على أن النصارى يقولون: إن لله والمسيح ومريم ثلاثة آلهة، والدليل عليه قوله تعالى: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} [المائدة: 116] الثالث: قال الفراء ولا تقولوا هم ثلاثة كقوله: {سَيَقُولُونَ ثلاثة} [الكهف: 22] وذلك لأن ذكر عيسى ومريم مع الله تعالى بهذه العبرة يوهم كونهما إلهين، وبالجملة فلا نرى مذهباً في الدنيا أشد ركاكة وبعداً عن العقل من مذهب النصارى.
ثم قال تعالى: {انتهوا خَيْراً لَّكُمْ} وقد ذكرنا وجه انتصابه عند قوله: {فآمنوا خيراً لكم}.
ثم أكد التوحيد بقوله: {إِنَّمَا الله إله واحد} ثم نزّه نفسه عن الولد بقوله: {سبحانه أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} ودلائل تنزيه الله عن الولد قد ذكرناها في سورة آل عمران وفي سورة مريم على الاستقصاء.
وقرأ الحسن: إن يكون، بكسر الهمزة من {إن} ورفع النون من يكون، أي سبحانه ما يكون له ولد، وعلى هذا التقدير فالكلام جملتان.
ثم قال تعالى: {لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض}.
واعلم أنه سبحانه في كل موضع نزّه نفسه عن الولد ذكر كونه ملكاً ومالكاً لما في السموات وما في الأرض فقال في مريم {إِن كُلُّ مَن فِي السموات والأرض إِلاَّ آتِى الرحمن عَبْداً} [مريم: 93] والمعنى: من كان مالكاً لكل السموات والأرض ولكل ما فيها كان مالكاً لما هو أعظم منهما فبأن يكون مالكاً لهما أولى، وإذا كانا مملوكين له فكيف يعقل مع هذا توهم كونهما له ولداً وزوجة.
ثم قال: {وكفى بالله وَكِيلاً} والمعنى أن الله سبحانه كاف في تدبير المخلوقات وفي حفظ المحدثات فلا حاجة معه إلى القول بإثبات إله آخر، وهو إشارة إلى ما يذكره المتكلمون من أنه سبحانه لما كان عالماً بجميع المعلومات قادراً على كل المقدورات كان كافياً في الإلهية، ولو فرضنا إلهاً آخر معه لكان معطلاً لا فائدة فيه، وذلك نقص، والناقص لا يكون إلهاً.
ثم قال تعالى: {لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملئكة المقربون} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الزجاج: لن يستنكف أي لن يأنف، وأصله في اللغة من نكفت الدمع إذا نحيته بأصبعك عن خدك، فتأويل {لَّن يَسْتَنكِفَ} أي لن يتنغص ولم يمنع، وقال الأزهري: سمعت المنذري يقول: سمعت أبا العباس وقد سئل عن الاستنكاف فقال: هو من النكف، يقال ما عليه في هذا الأمر من نكف ولا كف، والنكف أن يقال له سوء، واستنكف إذا دفع ذلك السوء عنه.
المسألة الثانية: روي أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تعيب صاحبنا قال: «ومن صاحبكم؟» قالوا: عيسى، قال: «وأي شيء قلت؟» قالوا: تقول إنه عبد الله ورسوله، قال: «إنه ليس بعار أن يكون عبد الله»، فنزلت هذه الآية، وأنا أقول: إنه تعالى لما أقام الحجة القاطعة على أن عيسى عبد الله، ولا يجوز أن يكون ابناً له أشار بعده إلى حكاية شبهتهم وأجاب عنها، وذلك لأن الشبهة التي عليها يعولون في إثبات أنه ابن الله هو أنه كان يخبر عن المغيبات وكان يأتي بخوارق العادات من الإحياء والإبراء، فكأنه تعالى قال: {لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح} بسبب هذا القدر من العلم والقدرة عن عبادة الله تعالى فإن الملائكة المقربين أعلى حالاً منه في العلم بالمغيبات لأنهم مطلعون على اللوح المحفوظ، وأعلى حالاً منه في القدرة لأن ثمانية منهم حملوا العرش على عظمته، ثم إن الملائكة مع كمال حالهم في العلوم والقدرة لا يستنكفوا عن عبودية الله، فكيف يستنكف المسيح عن عبوديته بسبب هذا القدر القليل الذي كان معه من العلم والقدرة، وإذا حملنا الآية على ما ذكرناه صارت هذه الآيات متناسبة متتابعة ومناظرة شريفة كاملة، فكان حمل الآية على هذا الوجه أولى.
المسألة الثالثة: استدل المعتزلة بهذه الآية على أن الملك أفضل من البشر. وقد ذكرنا استدلالهم بها في تفسير قوله: {وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآِدَمَ} [البقرة: 34] وأجبنا عن هذا الاستدلال بوجوه كثيرة، والذي نقول هاهنا: إنا نسلم أن اطلاع الملائكة على المغيبات أكثر من اطلاع البشر عليها ونسلم أن قدرة الملائكة على التصرف في هذا العالم أشد من قدرة البشر، كيف ويقال: إن جبريل قلع مدائن قوم لوط بريشة واحدة من جناحه إنما النزاع في أن ثواب طاعات الملائكة أكثر أم ثواب طاعات البشر، وهذه الآية لا تدل على ذلك ألبتة، وذلك لأن النصارى إنما أثبتوا إلهية عيسى بسبب أنه أخبر عن الغيوب وأتى بخوارق العادات. فإيراد الملائكة لأجل إبطال هذه الشبهة إنما يستقيم إذا كانت الملائكة أقوى حالاً في هذا العلم، وفي هذه القدرة من البشر، ونحن نقول بموجبه.
فأما أن يقال: المراد من الآية تفضيل الملائكة على المسيح في كثرة الثواب على الطاعات فذلك مما لا يناسب هذا الموضع ولا يليق به، فظهر أن هذا الاستدلال إنما قوي في الأوهام لأن الناس ما لخصوا محل النزاع والله أعلم.
المسألة الرابعة: في الآية سؤال، وهو أن الملائكة معطوفون على المسيح فيصير التقدير: ولا الملائكة المقربون في أن يكونوا عبيداً لله وذلك غير جائز.
والجواب فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون المراد ولا كل واحد من المقربين.
الثاني: أن يكون المراد ولا الملائكة المقربون أن يكونوا عبيداً فحذف ذلك لدلالة قوله: {عَبْداً للَّهِ} عليه على طريق الإيجاز.
المسألة الخامسة: قرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه (عبيد الله) على التصغير.
المسألة السادسة: قوله: {وَلاَ الملئكة المقربون} يدل على أن طبقات الملائكة مختلفة في الدرجة والفضيلة فالأكابر منهم مثل جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وحملة العرش، وقد شرحنا طبقاتهم في سورة البقرة في تفسير قوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة} [البقرة: 30].
ثم قال تعالى: {وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً} والمعنى أن من استنكف عن عبادة الله واستكبر عنها فإن الله يحشرهم إليه أي يجمعهم إليه يوم القيامة حيث لا يملكون لأنفسهم شيئاً.
واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه يحشر هؤلاء المستنكفين المستكبرين لم يذكر ما يفعل بهم بل ذكر أولاً ثواب المؤمنين المطيعين.
فقال: {فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مّن فَضْلِهِ} ثم ذكر آخراً عقاب المستنكفين المستكبرين.
فقال: {وَأَمَّا الذين استنكفوا واستكبروا فَيُعَذّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} والمعنى ظاهر لا إشكال فيه، وإنما قدم ثواب المؤمنين على عقاب المستنكفين لأنهم إذا رأوا أولاً ثواب المطيعين ثم شاهدوا بعده عقاب أنفسهم كان ذلك أعظم في الحسرة.


{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)}
واعلم أنه تعالى: لما أورد الحجة على جميع الفرق من المنافقين والكفار واليهود والنصارى وأجاب عن جميع شبهاتهم عمم الخطاب. ودعا جميع الناس إلى الاعتراف برسالة محمد عليه الصلاة والسلام فقال: {يَأَيُّهَا الناس قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْ} والبرهان هو محمد عليه الصلاة والسلام، وإنما سماه برهاناً لأن حرفته إقامة البرهان على تحقيق الحق وإبطال الباطل، والنور المبين هو القرآن، وسماه نوراً لأنه سبب لوقوع نور الإيمان في القلب، ولما قرر على كل العالمين كون محمد رسولاً وكون القرآن كتاباً حقاً أمرهم بعد ذلك أن يتمسكوا بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ووعدهم عليه بالثواب فقال: {فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ بالله واعتصموا بِهِ} والمراد آمنوا بالله في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه واعتصموا به أي بالله في أن يثبتهم على الإيمان ويصونهم عن نزع الشيطان ويدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً، فوعد بأمور ثلاثة: الرحمة والفضل والهداية.
قال ابن عباس: الرحمة الجنة، والفضل ما يتفضل به عليهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صراطا مُّسْتَقِيماً} يريد ديناً مستقيماً.
وأقول: الرحمة والفضل محمولان على ما في الجنة من المنفعة والتعظيم، وأما الهداية فالمراد منها السعادات الحاصلة بتجلي أنوار عالم القدس والكبرياء في الأرواح البشرية وهذا هو السعادة الروحانية، وأخر ذكرها عن القسمين الأولين تنبيهاً على أن البهجة الروحانية أشرف من اللذات الجسمانية.


{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)}
اعلم أنه تعالى تكلم في أول السورة في أحكام الأموال وختم آخرها بذلك ليكون الآخر مشاكلاً للأول، ووسط السورة مشتمل على المناظرة مع الفرق المخالفين للدين.
قال أهل العلم: إن الله تعالى أنزل في الكلالة آيتين إحداهما في الشتاء وهي التي في أول هذه السورة، والأخرى في الصيف وهي هذه الآية، ولهذا تسمى هذه الآية آية الصيف وقد ذكرنا أن الكلالة اسم يقع على الوارث وعلى الموروث، فإن وقع على الوارث فهو من سوى الوالد والولد، وإن وقع على الموروث فهو الذي مات ولا يرثه أحد الوالدين ولا أحد من الأولاد، ثم قال: {إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} ارتفع امرؤ بمضمر يفسره الظاهر، ومحل {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} الرفع على الصفة، أي إن هلك امرؤ غير ذي ولد.
واعلم أن ظاهر هذه الآية فيه تقييدات ثلاث: الأول: أن ظاهر الآية يقتضي أن الأخت تأخذ النصف عند عدم الولد، فأما عند وجود الولد فإنها لا تأخذ النصف، وليس الأمر كذلك، بل شرط كون الأخت تأخذ النصف أن لا يكون للميت ولد ابن، فإن كان له بنت فإن الأخت تأخذ النصف.
الثاني: أن ظاهر الآية يقتضي أنه إذا لم يكن للميت ولد فإن الأخت تأخذ النصف وليس كذلك، بل الشرط أن لا يكون للميت ولد ولا والد، وذلك أن الأخت لا ترث مع الوالد بالإجماع.
الثالث: أن قوله: {وَلَهُ أُخْتٌ} المراد منه الأخت من الأب والأم، أو من الأب، لأن الأخت من الأم والأخ من الأم قد بيّن الله حكمه في أول السورة بالإجماع.
ثم قال تعالى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَا وَلَدٌ} يعني أن الأخ يستغرق ميراث الأخت إذا لم يكن للأخت ولد، إلاّ أن هذا الأخ من الأب والأم أو من الأب، أما الأخ من الأم فإنه لا يستغرق الميراث.
ثم قال تعالى: {فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأنثيين} وهذه الآية دالة على أن الأخت المذكورة ليست هي الأخت من الأم فقط، وروي أن الصديق رضي الله عنه قال في خطبته: ألا أن الآية التي أنزلها الله في سورة النساء في الفرائض، فأولها: في الولد والوالد.
وثانيها: في الزوج والزوجة والإخوة من الأم، والآية التي ختم بها سورة النساء أنزلها في الأخوة والأخوات من الأب والأم، والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أولي الأرحام.
ثم قال تعالى: {يُبَيّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} وفيه وجوه:
الأول: قال البصريون: المضاف هاهنا محذوف وتقديره: يبين الله لكم كراهة أن تضلوا، إلاّ أنه حذف المضاف كقوله: {واسئل القرية} [يوسف: 82] الثاني: قال الكوفيون: حرف النفي محذوف، والتقدير: يبين الله لكم لئلا تضلوا، ونظيره قوله: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السموات والأرض أَن تَزُولاَ} [فاطر: 41] أي لئلا تزولا.
الثالث: قال الجرجاني صاحب النظم: يبين الله لكم الضلالة لتعلموا أنها ضلالة فتجنبوها.
ثم قال تعالى: {والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} فيكون بيانه حقاً وتعريفه صدقاً.
واعلم أن في هذه الصورة لطيفة عجيبة، وهي أن أولها مشتمل على بيان كمال قدرة الله تعالى فإنه قال: {يَأَيُّهَا الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة} [النساء: 1] وهذا دال على سعة القدرة، وآخرها مشتمل على بيان كمال العلم وهو قوله: {والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} وهذان الوصفان هما اللذان بهما تثبت الربوبية والإلهية والجلالة والعزة، وبهما يجب على العبد أن يكون مطيعاً للأوامر والنواهي منقاداً لكل التكاليف.

38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45